فضيلة الشيخ:
أبي عبد المعز محمد علي فركوس
-حفظه الله-
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ ابنَ تيميةَ -رحمه الله- كان سابقًا لزمانه، بحرًا في كُلِّ فنٍّ لا تكاد تُكدّره الدِّلاءُ، ارتقى في مدارج العلم والكمال حتى بلغ ذِرْوَةَ المجد العلميِّ والنبوغِ الفكري، فسما عن الجيل الذي يعيش بينه، فهذه المنـزلةُ التي حباه الله بها -وإن كان يُغبَط عليها- إلاّ أنها في الوقت نفسه ابتلاءٌ له وامتحان، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ..»(١).
وميزةُ ابنِ تيميةَ -رحمه الله- في تآليفه الكثيرة العامرة ومناظراته العلمية الدَّقيقة أن يستوثقَ من كلام المخالفين عند تعرُّضه لهم بالنقد والتفنيد والتقويم، فلا يُسنِد لهم أقوالاً يفترضها لهم تَقَوُّلاً ثمّ يجيب عنها ويناقشها بالردِّ والقَبول، كما هو صنيعُ كثيرٍ من خصومه الأقدمين والمُحْدَثين والمعاصرين، وإنما يُسْنِدُ لهم القولَ عن بيِّنةٍ بالمشافهة أو بنقل مستوثق من كتاب يعرفه، يخطِّئ الآراء الفاسدة الناشئة عن ضلال الأفكار وانحراف المعتقدات، ويدمغ الباطلَ بالبرهان والحجّة، والكتاب والسُّنَّة، فوقع كلامُه في نفوس المخالفين له موقعَ التسليم، ولعِظم الدهشة التي أصيبوا بها لم يطيقوا نقضَهُ إلاّ من جهة اختلاق أقوالٍ نسبوها إليه افتراءًَ وتزويرًا ولا حقيقة لها ولا محصِّل.
قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: «وَكَانَ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ زُوِّرَ عَلَيَّ كِتَابٌ إلَى الأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ الجاشنكير أُسْتَاذِ دَارِ السُّلْطَانِ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ عَقِيدَةٍ مُحَرَّفَةٍ وَلَمْ أَعْلَمْ بِحَقِيقَتِهِ؛ لَكِنْ عَلِمْت أَنَّهُ مَكْذُوبٌ»(٣)، لذلك كان سبيلُ النقد الموجّه له ضعيفًا من جهة التوثُّق من أقواله، أو من جهة الجهل بمقصده ومرماه، أو عدم الإدراك لمغزاه، أو ترتبه كأثرٍ ناتجٍ عن تعصّب لآرائهم أو آراء كبرائهم.
ومن ضروب النقد التي شَنَّهَا عليه خصومُهُ لَمَّا أَلَّفَ ردَّه على الإخنائي، وحرّم فيه بناءً على النصوص الحديثية شدَّ الرحال لزيارة القبور، وهي من أشدّ المعارضات التي لَقِيَهَا ابنُ تيمية -رحمه الله- من خصومه، ولا تزال ساحتها حامية الوطيس بين أهل التوحيد وأهل القبور من الصوفية وأهل الطرق وغيرِهم، كما وُجّهت له انتقادات بسبب تأليفه للفتوى الحموية التي أبرز فيها معتقدَ أهل السُّنَّة وما يجب اعتقاده بالأخصِّ في مسائل الأسماء والصفات، وقد لاقى بسببها من خصومه معارضةً وتشنيعًا، وبالأخصّ الأشاعرة الذين كانوا يمثلون –آنذاك- الأغلبية من الناس، ومن صُوَر النقد -أيضًا- أنه نسب إليه التناقض في قوله ﺑ: «قدم جنس الكلام وحدوث آحاده»، وأنه القائل ﺑ: «حلول الحوادث بالذات» وغيرها من الانتقادات والمعارضات.
ولعلّ أقوى موجةِ نقدٍ نشهدها اليوم ما يُروِّجه بعضُ أساتذة الفلسفة والمنطق اليوناني ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 202]، من نسبة تهمة التشبيه والتجسيم لابن تيمية -رحمه الله- في محاولات جريئة ومسطّرة، تتطابق وقولَ ابن العربي المالكي (٤): «والناس إذا لم يجدوا عيبًا لأحد، وغلبهم حسدهم وعداوتهم له أحدثوا له عيوبًا.. فيقذفوا في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى وليحتقروا السلف ويهونوا الدين» (٥)، والكيِّس إذا أنعم النظر يُدرك أنَّ النقد غيرُ موجّهٍ لشيخ الإسلام على الخصوص وإنما يستهدف المنهجَ السلفيَّ المتمسّك بدعوته بُغيةَ إفساد الناس عليه وإبعادهم عنه والانتقاص من علمائه ونسبة المآخذ لرواده.
ومما نسبوا إليه من القول -جريًا على ما ذكره ابن بطوطة (٦) في رحلته- أنه حضر يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على المنبر الجامع إلى أن قال: «فذكر حديث النزول، فَنَزل على المنبر درجتين فقال: كَنُزولي هذا» (٧)، كما نسبوا إليه -كذبًا وافتراءً- القولَ: «بأنّ الله يَنْزل إلى السماء الدنيا إلى مرجة خضراء، وفي رجليه نعلان من ذهب»(٨)، وأنه قال -أيضًا-: «إنّ الله يجلس على العرش وقد خلى مكانًا يقعد فيه رسول الله»(٩).
هذا، وممّا يدل -يقينًا- على براءة ابن تيمية -رحمه الله- من هذه الفرية الشنيعة ما يلي:
• أولاً: إنّ قدومَ ابنِ بَطُّوطةَ إلى دمشقَ ووصوله إليها إنما كان يومَ الخميس التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة هجرية، وابن تيمية قد سجن في قلعة دمشقَ في السادس من شهر شعبان من ذلك العام، وبقي مسجونًا إلى أن توفَّاه الله تعالى، فأنى رآه ابنُ بطوطة وهو يعظ الناس.
• ثانيًا: ولأنّ المقرّر عند نفاة الصّفات على اختلاف طبقاتهم في النفي: من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة يدّعون أنّ إثبات الصفات أو بعضها يسمّى تشبيهًا، ذلك لأنّ دعواهم مبنية على أنّ ما في الشاهد إلاّ صفات المخلوقين لذلك يلتزمون النفي مستدلّين بأنه يستلزم من إثبات الصفات تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ما يفسّر رميَهم لمثبتي الصفات من السلف وغيرهم بالتجسيم والتشبيه.
وهذا خطأ، إذ لا يصحّ الاعتماد في النفي والإثبات على لزوم التشبيه وعدمه؛ لأنّ اتفاق المسلمين في بعض الأسماءِ والصّفاتِ ليس هو التشبيهَ والتمثيلَ الذي نفته الأدلّة السمعية والعقلية، فما من شيئين إلاّ وبينهما قدرٌ مشترك وقدرٌ مميَّز، فنفيه عمومًا نفي للقدر المشترك وهو باطل، وإثباته بعمومه إثبات لتساويهمَا في القدر المميَّز وهو باطل، إذ لا يلزم من التشابه في بعض الوجوه التشابهَ من كلّ وجه –كما سيأتي.
• ثالثًا: لم يُعلم من حياة ابنِ تيمية العلمية أنه كان له منبر يرتقي عليه ويعظ الناس، وإنما كان له كرسي يجلس عليه ويجتمع الناس حوله.
• رابعًا: لم يرد في كتب ابن تيمية -رحمه الله- هذا الكلام لا نصًّا ولا ظاهرًا يدلُّ على هذا التشبيه المذموم شرعًا، وكتابه «شرح حديث النُّزُول» (١٠) متداولٌ بين الناس لم يظهر فيه أيُّ تصريحٍ بما اتهم به، ولا في أيِّ كتابٍ أو موضعٍ آخرَ.
• خامسًا: تصريحُ ابن تيمية في مواضع متعدّدة بنفي التمثيل عن الله ومشابهةِ أحدٍ من المخلوقين في شيء من صفاته وخصائصِه، ويظهر ذلك من نصوص كلامه اللاحقة ذمُّه للتشبيه ووصف أصحابه بالمبطلين، حيث يقول -رحمه الله-: «ليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفةَ المخلوقِ، بل كلُّ ما يوصف به الرب تعالى فهو مخالفٌ بالحدّ والحقيقة لما يوصفُ به المخلوق أعظمُ مما يخالف المخلوقُ المخلوقَ، وإذا كان المخلوق مخالفًا بذاته وصفاته لبعض المخلوقاتِ في الحدّ والحقيقةِ، فمخالفة الخالق لكلّ مخلوقٍ في الحقيقة أعظمُ من مخالفة مخلوق فرض لأي مخلوق فرض، ولكنْ علمه ثبت له حقيقةُ العلم، ولقدرته حقيقةُ القدرة، ولكلامه حقيقةُ الكلام، كما ثبت لذاته حقيقةُ الذاتية، ولوجوده حقيقةُ الوجود، وهو أحقّ بأن تَثْبُتَ له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه» (١١).
وقال -أيضًا-: «وصفات الله تعالى لا تماثل صفاتِ العباد، فإنّ الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا صفاتِه، ولا أفعالِه»(١٢)،
وقال عن المشبه: «ومَنْ جعل صفاتِ الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبِّه المُبطِل المذموم، وإن أراد بالتشبيه أن لا يُثْبِتَ لله شيئًا من الصِّفات فلا يقال له علم ولا قدرة ولا حياة؛ لأنّ العبد موصوف بهذه الصفات فَلَزِمَهُ أن لا يُقَال له حي عليم قدير؛ لأنَّ العبد يُسَمَّى بهذه الأسماء وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك»(١٣)،
وفي «بيان تلبيس الجهمية» يقول: «إنّ الله سبحانه مُنَزَّهٌ من أن يكون من جنسِ شيء من المخلوقات، لا أجسادَ الآدميين ولا أرواحَهم، ولا غيرَ ذلك من المخلوقات فإنَّه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقتُه كحقيقتِه، لَلَزِم أن يجوز على كلٍّ منهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجبُ له، ويُمتنع عليه ما يُمتنع عليه، وهذا ممتنع لأنّه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه غير قديم واجب الوجود بنفسه، وأن يكون المخلوقُ الذي يُمتنع غناه يُمتنع افتقاره إلى الخالق، وأمثالُ ذلك من الأمور المتناقضة، والله تعالى نَزَّهَ نفسَه أن يكون له كفو أو مثل أو سمي أو ند»(١٤)، كما ذكر -رحمه الله- أنّ مماثلةَ الخالق لعباده لو صحّت للزِم من ذلك افتقار المخلوقِ لخالقه، وهو ممتنَع ضرورةً -كما سيأتي-.
سادسًا: إنّ لفظ التشبيه والتجسيم لا يجوز لأحد إطلاقهُما في حقّ الله لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأنهما لفظان لم يَرِدَا في الكتاب والسُّنَّة بالنفي ولا بالإثبات، فإذا أورد المنازِع لفظًا مجملاً يحتمل حقًّا وباطلاً، فالواجب التوقّف من غير إثباتِ اللَّفظ أو نفيه -ليس ذلك لخلوِّ النقيضين عن الحقّ، ولا لقصورٍ أو تقصيرٍ في بيان الحقّ، ولكنَّ اللفظ مجملٌ، والعبارةَ موهمة مشتملة على الحقّ والباطل، ففي إثباتها إثباتُ الحقّ والباطل، وفي نفيها نفي للحقّ والباطل، فالواجب الامتناع عن كلا الإطلاقين، ثمّ الاستفسار عن مراد صاحبها بها فإن أراد بها حقًّا قُبِل، وإن أراد بها باطلاً ردّ، ولذلك ورد من قواعد أهل السُّنَّة في الردّ على المخالفين ودحض شبهاتهم قاعدة: «التَوَقُّفُ عِنْدَ الإِيهَامِ، والاِسْتِفْصَالُ عِنْدَ الإجْمَالِ»، وابنُ تيمية -رحمه الله- يأبى أن يُعَبِّرَ عن هذا المعنى الحقِّ به، وذلك لمخالفته للنصوصِ الشرعيةِ في عدمِ استعمالها في هذا المعنى، لأنّ من لوازمِ نفْيِه عَلَى إطْلاقِهِ نفيَ المعنى الحقّ، حيث إنّ إطلاق اللفظ المشترك من غير تعيين لأحدِ معانيه إطلاق لكلِّ مُسمَّاه، فإذا سُلّط عليه النفي كان ذلك مسلطًا عليهما (١٥)، لذلك كانت متابعة الكتاب والسُّنَّة في اللّفظ والمعنى أكملَ وأتمّ من متابعتهما في المعنى دونَ اللّفظ، ومن قبيل لفظ التشبيه والتجسيم إطلاق لفظ الجهة لله تعالى، فإن لفظَ الجهة لم يَرِدْ في الكتاب ولا في السُّنَّة لا إثباتًا ولا نفيًا، وهو لفظٌ مجملٌ محتملٌ، يُغني عنه ما ثبت في الكتاب والسُّنَّة من أنّ الله تعالى في السماء، ووجهُ احتمال الجهة أن تكون جهةَ سفلٍ أو علوٍ تحيط بالله تعالى أو جهة علو لا تحيط به، فإنْ أُريدَ به جهةَ سفل فباطلٌ لمنافاته لعلوِّ الله عزّ وجل الثابتِ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقلِ والفِطرةِ، وإن أريد به جهة علوٍّ تحيط بالله تعالى فباطلٌ أيضًا؛ لأنّ الله تعالى أجلُّ وأعظم من أن يحيط به شيءٌ من مخلوقاتِه، وإن أريد به جهة علوٍ لا تحيط به فحقّ يجب إثباته وقبولُه؛ لأنّ الله تعالى هو العليُّ الأعلى ولا يحيط به شيء من مخلوقاته (١٦)، فلذلك كانت مثلُ هذه الألفاظ التي لم تَرِدْ لا في الكتاب ولا في السُّنَّة تحتمل معانيَ صحيحةً وأخرى فاسدة، فإذا عُرِف مراد صاحبها وكان موافقًا للمعنى الصحيح قُبِلَ مرادُه، ومُنِعَ من التكلُّم باللفظ المجمل، وعُلِّم الألفاظَ الشرعيةَ في ذلك، ومن صُوَر نهي السَّلف عن إطلاق النفي والإثبات على الألفاظ المجملة المحتملَة قولُ الإمام أحمد -رحمه الله-: «إذا سأل الجهميُّ فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غيرُه؟ قيل له: وإنّ الله جلَّ ثناؤه لم يقل في القرآن: إنّ القرآن: أنا، ولم يقل: غَيري، وقال: هو كلامي: فسمَّيناه باسم سمَّاه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمَّى القرآن باسم سمَّاه الله به كان من المهتدين، ومن سمَّاه باسم غيره كان من الضالين» (١٧).
ثمّ إنه من جهة أخرى لفظ التشبيه والتجسيم لم يَرِدْ نفيُهما أو إثباتُهما عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسائرِ أئمِّة المسلمين، وإن ورد في كلام بعضهم فإنّما يرد مقرونًا بتفسيره وهو معنى تمثيلِ الله بخلقه، ذلك التشبيهُ بمعناه الباطل الذي ينفيه ابنُ تيمية -رحمه الله- وهو مماثلة الله لشيءٍ من مخلوقاتِه فيما هو من خصائصِ الله سبحانه.
سابعًا: إنّ لفظ التشبيه والتجسيمِ عند ابن تيميةَ لفظان مجملان لاحتمالهما للمعنى الحقّ والمعنى الباطل -كما تقدّم-؛ لأنّ التشبيه قد يُطلق ويُقصد به التمثيلُ المذموم المنفيُ شرعًا، وقد يطلق ويُقصد به القدرُ المشترك بين المسميات، وهو لا يستلزم ولا يتضمَّن التمثيلَ المنفي شرعًا بنصوص الكتاب والسنة؛ لأنّ ما لزم الصفةَ لذاتها اتَّصف بها الخالق والمخلوق من حيثُ هما موجودان، فالصِّفة من لوازم وجود كلِّ موجودٍ يُمكن أن يتصف بها، وهي -من هذه الجهة- حقيقةٌ ذِهنيةٌ، بخلاف ما إذا أضيفت إلى موصوفها فإنّ إضافتها إلى موصوفها مانعٌ من الاشتراك فيها، بل هو يدلّ على اختصاص الباري جلّ وعلا بها (١٨).
فابن تيمية -رحمه الله- يفرق بين الصفة ذاتها من حيث هي صفة، وبين الصفة إذا أضيفت إلى موصوفها، وليس من التمثيلِ المنفيِ شرعًا الاشتراك في مسمّى الصفة من حيث هي صفة قبل الإضافة إلى الخالق أو المخلوق، بل هي بهذا المعنى: لفظٌ كليٌ عامّ، أو اسمُ جنس كما تقرّر عند النحاة، أي: لفظ موضوع للدلالة على الحقيقة الذهنية دون سواها، وهي بهذا المنظور الاعتباري لا وجود لها في خارج الذهن.
وعليه، فإنّ التشبيه المذموم الذي هو بمعنى التمثيل لازم في الصفة عند الإضافة دون الصفة إذا أطلقت؛ لأنّ صفة الوجود والسمع والبصر ونحو ذلك مثلاً على نوعين: وجود وسمع وبصر قديم، ووجود وسمع وبصر محدث، ويطلق على كلّ مسمى الوجود والسمع والبصر وتلزمه لوازمه فإنّ هذا ليس من التمثيل الذي نفته الأدلة الشرعية، فإنّ الله تعالى جمع في حقّ نفسه بين النفي والإثبات فقال سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فنفى عن نفسه التمثيلَ بالأشياء، وأثبت لنفسه سمعًا وبصرًا، ولو كان إثباتها ينافي نفي التمثيل لنفاه عن نفسه، ولكان جمعه بينهما تناقضًا في النفي والإثبات وحاشا كلامَ الله أن يوصف بهذا، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
وفي تقرير هذا الأصل يقول ابن تيمية: «وأمّا المعنى الكلّي العامّ المشترك فيه فذاك -كما ذكرنا- لا يوجد كليًّا إلاّ في الذِّهن، وإذا كان المتصفان به بينهما نوعُ موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه، فذاك لا محذور فيه، فإنّ ما يلزم ذلك القدرَ المشتركَ من وجوب وجواز وامتناع فإنّ الله متصف به، فالموجودُ من حيثُ هو موجود أو العليم أو الحي، مهما قيل: إنّه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به، بخلاف وجود المخلوق وحياتِه وعلمِه، فإنّ الله لا يوصف بما يختصّ به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة، كما أنّ المخلوق لا يوصف بما يختص به الربّ من وجوب وجواز واستحالة» (١٩).
ومن تأسيس التفريق بين الصفة المطلقة والصفة المضافة فإنّ اللفظ الذي استعمله ابن تيمية -رحمه الله- هو ما طابق المعنى الحقّ الذي جاء به الكتاب والسُّنَّة مستعمَلاً فيه؛ لأنّ الخالق والمخلوق مختلفان في الحقيقة فلا يتماثلان، وهذا يستلزم أن يكون لكلّ واحد منهما صفات حقيقية ثبوتية يتحقق بها الاختلاف، والعدمُ المحض لا يحصل به امتياز أحدهما عن الآخر، فيلزم أن تكون صفات كلٍّ منهما مختلفة حتى يحصل بها الامتياز (٢٠).
ومن مقالة ابن تيمية -رحمه الله- في الردّ على من ادعى أنّ إثبات الصفات هو التمثيل الذي نفته الأدلة الشرعية ما نصّه:
«• أحدها: كونه مَثَّلَ ما فَهِمَه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنّ أنّ مدلولَ النصوصِ التمثيل.
• الثاني: إنه جعل ذلك هو مفهومها وعطَّله، بقيت النصوص معطلة عما دلّت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص وظنّه الشيء الذي ظنّه بالله ورسوله، حيث ظنّ أنّ الذي يُفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل، قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.
• الثالث: إنه ينفي تلك الصفات عن الله عزّ وجلّ بغير علم، فيكون معطِّلاً لما يستحقّه الربُّ.
• الرابع: إنه يصف الربَّ بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات، والجماداتِ، وصفاتِ المعدومات، فيكون قد عطَّل به صفاتِ الكمالِ التي يستحقّها الربّ» (٢١).
ومما تقدّم تقريره يظهر جليًّا أنّ دعوى نسبة التشبيه والتجسيم لابن تيمية -رحمه الله- منقوضة من أساسها، ولا أصل لها في الحقيقة والواقع، إذ قد يرجع الانتقاد له إلى توهّم الناقد وقوعَ ابن تيمية في التناقض باستعماله للمعنى الباطل اللازم للصفة عند الإضافة، والتناقضُ -في الحقيقة- إنما حصل في ذهن الناقد لا في حقيقة الواقع، إذ كيف يُعقل ممن هذا كلامه واستدلالُه أن يكون مشبِّهًا أو مجسِّمًا، وفي نصوص له سابقةٍ قد ذمّ هذا النوع من التشبيه والتجسيم ويصف أهله بالمبطلين، وبيّن تناقض القول به حيث يلزم منه كون المخلوق خالقًا، والفقير بالذات غنيًّا بالذات، وهكذا، وهو جمع بين النقيضين، وهو ممتنَع، كما يلزم أنه لو صحّ للزم أن يجب ويجوز ويمتنع عن الباري جلّ وعلا ما يجب ويجوز ويمتنع عن المخلوق، وهو باطل، وما بني عليه فباطل؛ لأنه يوجب اشتراكَهما فيما يجب ويجوز ويمتنع؛ ولأنه لو صحّ للزم أن يكون القديم بذاته غير قديم بذاته، والواجب بذاته ليس واجبًا بذاته وهكذا، وهو جمع بين النقيضين، وهو ممتنَع (٢٢).
كما أنه قد يرجع انتقادهم له إلى خطإ الباحثين في فهم مذهبه المأخوذ من معارضته لخصومه، وابنُ تيمية -رحمه الله- قد يذكر الرأي المخالفَ ويتسامح فيه عندما يعرض رأيه أو يحقّق رأيَ السّلف فيما يعترض له من المباحث العقدية اكتفاءً بما سبق له فيه من مناقشة وتحقيق تفاديًا للتَّكرار، فيظنّ الباحث أنّه مذهبُه في المسألة فيقع الخطأ في فهم رأيه ثمّ يتناقله عنه غيره من الباحثين.
ويصدق في هذا المقام قول أبي الطيّب المتنبي:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا *** وَآفَتُهُ مِنْ الفَهْمِ السَّقِيـمِ
وَلَكِـنْ تَأْخُذُ الأَذْهَانُ مِنْـهُ *** عَلَى قَدْرِ القَرَائِحِ وَالفُهُوم (٢٣)
وأخيرًا، فإنّ النقولَ المتكاثرةَ عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تفصح -صراحة في غير موضع- بنفي التمثيل ومشابهة أحدٍ من المخلوقين في شيءٍ من خصائصه، كما أبطل التشبيهَ المذمومَ من وجوهٍ عديدةٍ تقدَّمَ ذكرُها، وبيّن -رحمه الله- لوازمَ القول الممنوعةَ على من ادّعى أنّ إثبات الصفات هو التمثيل الذي نفته الأدلة الشرعية، فضلا عن أنه لم يظهر في أي نصٍّ من نصوصه ما يدلّ على التشبيه المذموم شرعًا، الأمر الذي يفيد -يقينًا- براءته من هذه الفرية الشنيعة.
هذا، والواجب على من يرغب في تفنيد آراء المخالف أو أن يظهر خطأه أن يطَّلع أوَّلاً على مصادره، ويتعرَّف على أدلته فذلك من الأمانة في العرض والتوثيق، وتقصير المشنعين -عندنا- في هذا المجال ظاهر ملحوظ في ثنايا شبههم، يحاكي بعضهم بعضًا أقوال مخالفيهم من غير تحفظ أو تثبّت أو توثيق، ويروّجون به الباطل، وبالأخصّ إن كان في محاولة الطعن في منهج أهل السُّنَّة والتشكيك في صدق أئمَّة الهُدى وعدالتهم. لا سيما وأن المخالف لهم أعلم منهم في كلّ الميادين بله مجال تخصّصه، وهم لا يبلغون رتبته ولا يقدّرون علمه، فمثلهم كمثل «الفروج سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها»(٢٤).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد عمّا ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم، والجدل والكلام والعمل»(٢٥).
نعم، إنّ التخلق بأدب الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب حقّ لازم، لا سبيلَ للدفاع عن الأخطاء أو تبريرها -إن وجدت- إذ ليس أحدٌ من العلماء إلاّ وله نادرة، فينبغي أن تُغمر في جنب فضله وتجتنب، لكن حشْد الهمّة في تصيّد العثرات والهفواتِ والسَّقَطَات من غير العناية بمقاصد الألفاظ وإحسان الظنّ بأصحابها لهوَ مِن طباع أبشع المخلوقات وأنجسها، قال ابن القيّم -رحمه الله-: «ومن الناس من طبعُه طبعُ خنزيرٍ، يمرّ بالطيّبات فلا يَلْوي عليها، فإذا قام الإنسانُ من رجيعهِ قَمَّهُ، وهكذا كثير من النّاس يسمعُ منك ويرى من المحاسن أضعافَ المساوئِ فلا يحفَظُها، ولا يَنْقُلُهَا، ولا تُنَاسِبُهُ، فإذا رأى سَقْطَةً، أو كَلِمَةً عَوْرَاءَ، وجد بُغيتَهُ وما يُناسبُها، فجعلها فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ»(٢٦).
نسأل الله أن يعزّ أولياءه، وأن يذلّ أعداءه، ويهديَنا للحقّ، فهو حسبُنا ونعم الوكيل، وبكلّ خير كفيل، وعليه المعتمد والاتكال في الحال والمآل، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1428ﻫ
الموافق ﻟ: 4 أغسطس 2007